الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}: وَلَوْ أَنَّا فَرَضْنَا عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْمُحْتَكِمِينَ إِلَى الطَّاغُوتِ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ أَوْ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ مُهَاجِرِينَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ أُخْرَى سِوَاهَا "مَا فَعَلُوه" يَقُولُ: مَا قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَلَا هَاجَرُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فَيَخْرُجُوا عَنْهَا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ " إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ". وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُم" يَهُودَ-يَعْنِي أَوْ كَلِمَةٌ تُشْبِهُهَا وَالْعَرَبَ- كَمَا أُمِرَ أَصْحَابُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ}: كَمَا أُمِرَ أَصْحَابُ مُوسَى أَنْ يَقْتُلَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا بِالْخَنَاجِرِ، لَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}: افْتَخَرَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَرَجُلٌ مِنْ يَهُودَ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فَقَتَلْنَا أَنْفُسَنَا، فَقَالَ ثَابِتٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُتِبَ عَلَيْنَا أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ لَقَتَلْنَا أَنْفُسَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذَا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} قَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَمَرَنَا لَفَعَلْنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- « فَقَالَ: إِنَّ مِنْ أُمَّتِي لَرِجَالًا الْإِيمَانُ أَثْبُتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي». وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: " إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ". فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَفَعَ "قَلِيلٌ "؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ بَدَلًا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُضْمَرَةِ فِي قَوْلِهِ: " مَا فَعَلُوهُ "، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: إِنَّمَا رُفِعَ عَلَى نِيَّةِ التَّكْرِيرِ كَأَنَّ مَعْنَاهُ: مَا فَعَلُوهُ، مَا فَعَلَهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ: وَكُـلُّ أَخٍ مُفَارِقُـهُ أَخُـوهُ، *** لَعمْـرُ أَبِيـكَ إِلَّا الفَرْقَـدَانِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: رَفَعَ "الْقَلِيل" بِالْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ "؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلَهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فَقِيلَ: مَا فَعَلُوهُ عَلَى الْخَبَرِ عَنِ الَّذِينَ مَضَى ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ "، ثُمَّ اسْتَثْنَى "الْقَلِيل" فَرُفِعَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، إِذْ كَانَ الْفِعْلُ مَنْفِيًّا عَنْهُ. وَهِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}. وَإِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ، فَلَا مِرْزِئَةً عَلَى قَارِئِهِ فِي إِعْرَابِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِذْ كَانَ الْفِعْلُ مَشْغُولًا بِمَا فِيهِ كِنَايَةَ مَنْ قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ، ثُمَّ اسْتُثْنِيَ مِنْهُمُ الْقَلِيلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِذَلِكَ: وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَهُمْ يَتَحَاكَمُونَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَيَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا "فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِه" يَعْنِي: مَا يُذَكَّرُونَ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ "لَكَانَ خَيْرًا لَهُم" فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ وَآجِلِ مَعَادِهِمْ "وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا" وَأَثْبُتُ لَهُمْ فِي أُمُورِهِمْ، وَأَقُومُ لَهُمْ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقَ يَعْمَلُ عَلَى شَكٍّ، فَعَمَلُهُ يَذْهَبُ بَاطِلًا وَعَنَاؤُهُ يَضْمَحِلُّ فَيَصِيرُ هَبَاءً، وَهُوَ بِشَكِّهِ يَعْمَلُ عَلَى وَنَاءٍ وَضَعْفٍ. وَلَوْ عَمِلَ عَلَى بَصِيرَةٍ لَاكْتَسَبَ بِعَمَلِهِ أَجْرًا، وَلَكَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ ذُخْرًا، وَكَانَ عَلَى عَمَلِهِ الَّذِي يَعْمَلُ أَقْوَى، وَلِنَفْسِهِ أَشَدَّ تَثْبِيتًا لِإِيمَانِهِ بِوَعْدِ اللَّهِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَعَمَلِهِ الَّذِي يَعْمَلُهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ مَنْ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا" تَصْدِيقًا، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا" قَالَ: تَصْدِيقًا. لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُصَدِّقًا كَانَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ تَثْبِيتًا، وَلِعَزْمِهِ فِيهِ أَشَدَّ تَصْحِيحًا. وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 265]. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى بَيَانِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ مِنْ إِعَادَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ؛ لِإِيتَائِنَا إِيَّاهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ مَا وُعِظُوا بِهِ مِنْ طَاعَتِنَا وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِنَا "أَجْرًا" يَعْنِي: جَزَاءً وَثَوَابًا عَظِيمًا، وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لِعَزَائِمِهِمْ وَآرَائِهِمْ، وَأَقْوَى لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ؛ لِهِدَايَتِنَا إِيَّاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، يَعْنِي: طَرِيقًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الْقَوِيمُ الَّذِي اخْتَارَهُ لِعِبَادِهِ وَشَرَعَهُ لَهُمْ، وَذَلِكَ الْإِسْلَامُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "وَلَهَدَيْنَاهُم" وَلَوَفَّقْنَاهُمْ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. ثُمَّ ذَكَرَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- مَا وَعَدَ أَهْلَ طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْكَرَامَةِ الدَّائِمَةِ لَدَيْهِ، وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَهُ، فَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} الْآيَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَجَزَاؤُهُ " بِالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِمَا، وَإِخْلَاصِ الرِّضَى بِحُكْمِهِمَا، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِمَا، وَالِانْزِجَارِ عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَهُوَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَتِهِ وَالتَّوْفِيقِ لِطَاعَتِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْبِيَائِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ "وَالصِّدِّيقِين" وَهُمْ جَمْعُ " صِدِّيقٍ ". وَاخْتُلِفَ فِيمَعْنَى: " الصِّدِّيقِينَ ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصِّدِّيقُونَ تُبَّاعُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ وَاتَّبَعُوا مِنْهَاجَهُمْ بَعْدَهُمْ حَتَّى لَحِقُوا بِهِمْ. فَكَأَنَّ "الصِّدِّيق" " فِعِّيلٌ "عَلَى مَذْهَبِ قَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِن" الصِّدْقِ " كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ سِكِّيرٌ مِنْ السُّكْرِ، إِذَا كَانَ مُدْمِنًا عَلَى ذَلِكَ، وَشِرِّيبٌ، وَخِمِّيرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ "فِعِّيل" مِنَ " الصَّدَقَةِ "، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِنَحْوِ تَأْوِيلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمَّتِيقُرَيْبَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أُمِّهَاكَرِيمَةَ ابْنَةِ الْمِقْدَادِ، عَنْضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ، عَنِ الْمِقْدَادِ قَالَ: «قَلْتُ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْكَ شَكَكْتُ فِيهِ، قَالَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي الْأَمْرِ فَلْيَسْأَلْنِي عَنْهُ، قَالَ قُلْتُ: قَوْلُكَ فِي أَزْوَاجِكَ: "إِنِّي لَأَرْجُو لَهُنَّ مِنْ بَعْدِي الصِّدِّيقِين" قَالَ: مَنْ تَعُدُّونَ الصِّدِّيقِينَ؟ قُلْتُ: أَوْلَادُنَا الَّذِينَ يَهْلَكُونَ صِغَارًا. قَالَ: لَا وَلَكِنَّ الصِّدِّيقِينَ هُمُ الْمُصَّدِّقُون». وَهَذَا خَبَرٌ لَوْ كَانَ إِسْنَادُهُ صَحِيحًا لَمْ نَسْتَجِزْ أَنْ نَعْدُوَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ بَعْضُ مَا فِيهِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بـ "الصِّدِّيق" أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: الْمُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ. إِذْ كَانَ "الْفِعِّيل" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِنَّمَا يَأْتِي إِذَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنَ الْفِعْلِ، بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ، إِمَّا فِي الْمَدْحِ، وَإِمَّا فِي الذَّمِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- فِي صِفَةِمَرْيَمَ: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 75]. وَإِذَا كَانَ مَعْنًى ذَلِكَ مَا وَصَفْنَا كَانَ دَاخِلًا مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِمَا قُلْنَا فِي صِفَةِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقِينَ. " وَالشُّهَدَاءِ "، وَهُمْ جَمْعُ " شَهِيدٍ "، وَهُوَ الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقِيَامِهِ بِشَهَادَةِ الْحَقِّ فِي جَنْبِ اللَّهِ حَتَّى قُتِلَ. " وَالصَّالِحِينَ "، وَهُمْ جَمْعُ " صَالِحٍ "، وَهُوَ كُلُّ مَنْ صَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: "وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَحَسُنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَعَتَهُمْ وَوَصَفَهُمْ رُفَقَاءَ فِي الْجَنَّةِ. " وَالرَّفِيقُ " فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: دَعَـوْنَ الهَـوَى ثُـمَّ ارْتَمَيْـنَ قُلُوَبنَـا *** بِأَسْـهُمِ أَعْـدَاءٍ وَهُـنَّ صَـدِيقُ بِمَعْنَى: وَهُنَّ صَدَائِقُ. وَأَمَّا نَصْبُ الرَّفِيقِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ. فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ يَرَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَيَقُولُ: هُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: كَرُمَ زَيْدٌ رَجُلًا، وَيَعْدِلُ بِهِ عَنْ مَعْنَى: نِعْمَ الرَّجُلُ، وَيَقُولُ: إِنَّ "نِعْم" لَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى اسْمٍ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ، أَوْ عَلَى نَكِرَةٍ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ يَرَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ حَالًا وَيَسْتَشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَرَبُ تَقُولُ: كَرُمَ زَيْدٌ مِنْ رَجُلٍ وَحَسُنَ أُولَئِكَ مِنْ رُفَقَاءَ،، وَأَنَّ دُخُولَ "مِن" دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ "الرَّفِيق" مُفَسِّرُهُ. قَالَ: وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ: نَعِمْتُمْ رِجَالًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: وَحَسُنْتُمْ رُفَقَاءَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِقَائِلِيهِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِأَنَّ قَوْمًا حَزِنُوا عَلَى فَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَذِرًا أَنْ لَا يَرَوْهُ فِي الْآخِرَةِ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مَحْزُونٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا فُلَانُ، مَالِي أَرَاكَ مَحْزُونًا؟ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، شَيْءٌ فَكَّرْتُ فِيهِ، فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: نَحْنُ نَغْدُو عَلَيْكَ وَنَرُوحُ، نَنْظُرُ فِي وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ، غَدًا تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ فَلَا نَصِلُ إِلَيْكَ، فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِهَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} ". قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَشَّرَه». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: «قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُفَارِقَكَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّكَ لَوْ قَدْ مِتَّ رُفِعْتَ فَوْقَنَا فَلَمْ نَرَكْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول" الْآيَة». حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ}: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رِجَالًا قَالُوا: هَذَا نَبِيُّ اللَّهِ نَرَاهُ فِي الدُّنْيَا، فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيُرْفَعُ فَلَا نَرَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول" إِلَى قَوْلِهِ: "رَفِيقًا". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} "الْآيَةَ، قَالَ: «قَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا أَدْخَلَكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَكُنْتَ فِي أَعْلَاهَا، وَنَحْنُ نَشْتَاقُ إِلَيْكَ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ".» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلَهُ: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول" الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ فَضْلُهُ عَلَى مَنْ آمَنَ بِهِ فِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ، فَكَيْفَ لَهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي الْجَنَّةِ أَنْ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ. يُقَالُ: إِنَّ الْأَعْلَيْنَ يَنْحَدِرُونَ إِلَى مَنْ هُمْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَيَجْتَمِعُونَ فِي رِيَاضِهَا، فَيَذْكُرُونَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَيَنْزِلُ لَهُمْ أَهْلُ الدَّرَجَاتِ فَيَسْعَوْنَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ وَمَا يَدْعُونَ بِهِ، فَهُمْ فِي رَوْضِهِ يُحْبَرُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: كَوْنُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَالرَّسُولَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ "الْفَضْلُ مِنَ اللَّه" يَقُولُ: ذَلِكَ عَطَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَفَضْلُهُ عَلَيْهِمْ، لَا بِاسْتِيجَابِهِمْ ذَلِكَ لِسَابِقَةٍ سَبَقَتْ لَهُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَلَيْسَ بِالطَّاعَةِ وَصَلُوا إِلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنْ فَضْلِهِ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَمْ يُطِيعُوهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا بِفَضْلِهِ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَهَدَاهُمْ بِهِ لِطَاعَتِهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-. وَقَوْلُهُ: "وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا" يَقُولُ: وَحَسْبُ الْعِبَادِ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُمْ "عَلِيمًا" بِطَاعَةِ الْمُطِيعِ مِنْهُمْ وَمَعْصِيَةِ الْعَاصِي، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُحْصِيهِ عَلَيْهِمْ وَيَحْفَظُهُ، حَتَّى يُجَازِيَ جَمِيعَهُمْ جَزَاءَ الْمُحْسِنِينَ مِنْهُمْ بِالْإِحْسَانِ، وَالْمُسِيئِينَ مِنْهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، وَيَعْفُو عَمَّنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ": صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَه" خُذُوا حِذْرَكُمْ "خُذُوا جُنَّتَكُمْ وَأَسْلِحَتَكُمُ الَّتِي تَتَّقُونَ بِهَا مِنْ عَدُوِّكُمْ لِغَزْوِهِمْ وَحَرْبِهِم" فَانْفِرُوا إِلَيْهِمْ ثُبَاتٍ". وَهِيَ جُمَعُ "ثُبَةٍ "، " وَالثُّبَةُ ": الْعُصْبَةُ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَانْفِرُوا إِلَى عَدُوِّكُمْ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ مُتَسَلِّحِينَ. وَمِنَ "الثُّبَة" قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَقَـدْ أَغْـدُوا عَـلَى ثُبَـةٍ كِـرَامٍ *** نَشَـاوَى وَاجِـدِينَ لِمَـا نَشَـاءُ وَقَدْ تُجْمَعُ "الثُّبَة" عَلَى " ثُبِينٍ ".. " أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا " يَقُولُ: أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا مَعَ نَبِيِّكُمْ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقِتَالِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ}: يَقُولُ: عُصَبًا، يَعْنِي سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ "أَوْ انْفِرُوا جَمِيعًا" يَعْنِي: كُلُّكُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: "فَانْفِرُوا ثُبَات" قَالَ: فِرَقًا قَلِيلًا قَلِيلًا. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: "فَانْفِرُوا ثُبَات" قَالَ: الثُّبَاتُ: الْفِرَقُ. حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "فَانْفِرُوا ثُبَات" فَهِيَ الْعُصْبَةُ، وَهِيَ الثُّبَةُ، "أَوْ انْفِرُوا جَمِيعًا" مَعَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: "فَانْفِرُوا ثُبَات" يَعْنِي: عُصَبًا مُتَفَرِّقِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا نَعْتٌ مِنَ اللَّهِ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِلْمُنَافِقِينَ نَعَتَهُمْ لِنَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ وَوَصَفَهُمْ بِصِفَتِهِمْ فَقَالَ: "وَإِنَّ مِنْكُم"- أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- يَعْنِي مِنْ عِدَادِكُمْ وَقَوْمِكُمْ، وَمَنْ يَتَشَبَّهُ بِكُمْ وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَعْوَتِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ، وَهُوَ مُنَافِقٌ يُبَطِّئُ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْكُمْ عَنْ جِهَادِ عَدْوِكُمْ وَقِتَالِهِمْ إِذَا أَنْتُمْ نَفَرْتُمْ إِلَيْهِمْ "فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَة" يَقُولُ: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ هَزِيمَةٌ، أَوْ نَالَكُمْ قَتْلٌ أَوْ جِرَاحٌ مِنْ عَدُوِّكُمْ "قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا" فَيُصِيبُنِي جِرَاحٌ أَوْ أَلَمٌ أَوْ قَتْلٌ، وَسَرَّهُ تَخَلُّفُهُ عَنْكُمْ شَمَاتَةً بِكُمْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ فِي وَعْدِ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا نَالَهُمْ فِي سَبِيلِهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَفِي وَعِيدِهِ. فَهُوَ غَيْرُ رَاجٍ ثَوَابًا، وَلَا خَائِفٍ عِقَابًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {" وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ "} إِلَى قَوْلِهِ: "فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" مَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي الْمُنَافِقِينَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: "وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئْن" عَنِ الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ {" فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا "} قَالَ: هَذَا قَوْلُ مُكَذِّبٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُنَافِقُ يُبَطِّئُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ "فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَة" قَالَ بِقَتْلِ الْعَدُوِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ "قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا" قَالَ: هَذَا قَوْلُ الشَّامِتِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَة" قَالَ: هَزِيمَةٌ. وَدَخَلَتِ "اللَّام" فِي قَوْلِهِ: لَمَنْ وَفُتِحَتْ لِأَنَّهَا اللَّامُ الَّتِي تَدْخُلُ تَوْكِيدًا لِلْخَبَرِ مَعَ إِنَّ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّ فِي الدَّارِ لَمَنْ يُكْرِمُكَ. وَأَمَّا اللَّامُ الثَّانِيَةُ الَّتِي فِي "لَيُبَطِّئْن" فَدَخَلَتْ لِجَوَابِ الْقَسَمِ، كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ لَمَنْ وَاللَّهِ لَيُبَطِّئْنَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: "وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ": وَلَئِنْ أَظْفَرَكُمُ اللَّهُ بِعَدُوِّكُمْ فَأَصَبْتُمْ مِنْهُمْ غَنِيمَةً لَيَقُولَنَّ هَذَا الْمُبَطِّئُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْجِهَادِ مَعَكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمُنَافِقُ: " كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ "بِمَا أُصِيبَ مَعَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ: "فَوْزًا عَظِيمًا". وَهَذَا خَبْرٌ مِنَ اللَّهِ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّ شُهُودَهُمُ الْحَرْبَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ شَهِدُوهَا لِطَلَبِ الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ تَخَلَّفُوا عَنْهَا فَلِلشَّكِّ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ لِحُضُورِهَا ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُونَ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا مِنَ اللَّهِ عُقَابًا. وَكَانَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولَانِ: إِنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِذَا كَانَ الظَّفِرُ لِلْمُسْلِمِينَ ": يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ " حَسَدًا مِنْهُمْ لَهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} قَالَ: قَوْلُ حَاسِدٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلَهُ: "وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّه" قَالَ: ظُهُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصَابُوا الْغَنِيمَةَ " لَيَقُولَنَّ ": يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا "، قَالَ: قَوْلُ الْحَاسِدِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا حَضٌّ مِنَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ عَلَى أَحَايِينِهِمْ غَالِبِينَ كَانُوا أَوْ مَغْلُوبِينَ، وَالتَّهَاوُنِ بِأَقْوَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي جِهَادِ مَنْ جَاهَدُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، [وَأَنَّ لَهُمْ فِي] جِهَادِهِمْ إِيَّاهُمْ- مَغْلُوبِينَ كَانُوا أَوْ غَالِبِينَ- مَنْزِلَةٌ مِنَ اللَّهِ رَفِيعَةٌ. يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَعْنِي فِي دِينِ اللَّهِ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَالدُّخُولِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ بِهِ " الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ "، يَعْنِي الَّذِينَ يَبِيعُونَ حَيَاتَهُمُ الدُّنْيَا بِثَوَابِ الْآخِرَةِ وَمَا وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ فِيهَا، وَبَيْعُهُمْ إِيَّاهَا بِهَا إِنْفَاقُهُمْ أَمْوَالَهُمْ فِي طَلَبِ رِضَى اللَّهِ لِجِهَادِ مَنْ أَمَرَ بِجِهَادِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ دِينِهِ، وَبَذْلِهِمْ مُهَجَهُمْ لَهُ فِي ذَلِكَ. أَخْبَرَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ إِذَا فَعَلُوهُ فَقَالَ: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}: يَقُولُ: وَمَنْ يُقَاتِلُ- فِي طَلَبِ إِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ- أَعْدَاءَ اللَّهِ "فَيُقْتَل" يَقُولُ: فَيَقْتُلُهُ أَعْدَاءُ اللَّهِ، أَوْ يَغْلِبُهُمْ فَيَظْفَرُ بِهِمْ "فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" يَقُولُ: فَسَوْفَ نُعْطِيهِ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابًا وَأَجْرًا عَظِيمًا. وَلَيْسَ لِمَا سَمَّى- جَلَّ ثَنَاؤُهُ – "عَظِيمًا" مِقْدَارٌ يُعْرَفُ مَبْلَغَهُ عِبَادُ اللَّهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْأَغْلَبَ عَلَى مَعْنَى "شَرَيْت" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ "بِعْت" بِمَا أَغْنَى [عَنْ إِعَادَتِهِ] وَقَدْ:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ}: يَقُولُ: يَبِيعُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، فـ "يَشْرِي ": يَبِيعُ، " وَيَشْرِي ": يَأْخُذُ، وَإِنَّ الْحَمْقَى بَاعُوا الْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: "وَمَا لَكُم"- أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- "لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه" وَفِي "الْمُسْتَضْعَفِين" يَقُولُ: عَنِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْكُمْ "مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ "، فَأَمَّا مِن" الرِّجَالِ "فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ، فَغَلَبَتْهُمْ عَشَائِرُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْقَهْرِ لَهُمْ، وَآذَوْهُمْ، وَنَالُوهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْمَكَارِهِ فِي أَبْدَانِهِمْ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَحَضَّ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ مِنْ أَيْدِي مَنْ قَدْ غَلَبَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَالَ لَهُمْ: وَمَا شَأْنُكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَنْ مُسْتَضْعَفِي أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمُ الَّذِينَ قَدِ اسْتَضْعَفَهُمُ الْكُفَّارُ فَاسْتَذَلُّوهُمْ ابْتِغَاءَ فِتْنَتِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ؟ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ: جَمْعُ وَلَدٍ، وَهُمُ الصِّبْيَان" الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا " يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ يَقُولُونَ فِي دُعَائِهِمْ رَبَّهُمْ بِأَنْ يُنْجِيَهُمْ مِنْ فِتْنَةِ مَنْ قَدِ اسْتَضْعَفَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: يَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَدِينَةٍ: قَرْيَةً، يَعْنِي الَّتِي قَدْ ظَلَمَتْنَا وَأَنْفُسَهَا أَهْلُهَا، وَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِيمَا فَسَّرَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ مَكَّةُ ". وَخَفْضُ "الظَّالِمِ "؛ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَة" الْأَهْلِ "، وَقَدْ عَادَتْ "الْهَاءُ وَالْأَلِف" اللَّتَانِ فِيهِ عَلَى " الْقَرْيَةِ "، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ إِذَا تَقَدَّمَتْ صِفَةُ الِاسْمِ الَّذِي مَعَهُ عَائِدٌ لِاسْمٍ قَبْلَهَا، أَتْبَعَتْ إِعْرَابَهَا إِعْرَابَ الِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهَا، كَأَنَّهَا صِفَةٌ لَهُ، فَتَقُولُ: مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ الْكَرِيمِ أَبُوهُ. " وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا "يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ – أَيْضًا- فِي دُعَائِهِمْ: يَا رَبَّنَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ عِنْدِكَ وَلِيًّا يَلِي أَمْرَنَا بِالْكِفَايَةِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ فِتْنَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ بِكَ " وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا " يَقُولُونَ: وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ عِنْدِكَ مَنْ يَنْصُرُنَا عَلَى مَنْ ظَلَمْنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا، بِصَدِّهِمْ إِيَّانَا عَنْ سَبِيلِكَ، حَتَّى تُظْفِرَنَا بِهِمْ، وَتُعْلِيَ دِينَكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} قَالَ: أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا عَنْ مُسْتَضْعَفِي الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَان" الصِّبْيَانُ " الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ": مَكَّةُ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا عَنْ مُسْتَضْعَفِينَ مُؤْمِنِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا}: يَقُولُ: وَمَا لَكَمَ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَمَّا "الْقَرْيَة" فَمَكَّةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} قَالَ: وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ يَقُولُ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} قَالَ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا، قَالَا: خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْقَرْيَةِ الظَّالِمَةِ إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي الطَّرِيقِ، فَنَأَى بِصَدْرِهِ إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ، فَمَا تَلَافَاهُ إِلَّا ذَلِكَ، فَاحْتَجَّتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَأُمِرُوا أَنْ يُقَدِّرُوا أَقْرَبَ الْقَرْيَتَيْنِ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ بِشِبْرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرَّبَ اللَّهُ إِلَيْهِ الْقَرْيَةَ الصَّالِحَةَ، فَتَوَفَّتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}: هُمْ أُنَاسٌ مُسْلِمُونَ كَانُوا بِمَكَّةَ، لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا لِيُهَاجِرُوا، فَعَذَرَهُمُ اللَّهُ، فَهُمْ أُولَئِكَ. وَقَوْلُهُ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا، فَهِيَ مَكَّةُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} قَالَ: وَمَا لَكُمْ لَا تَفْعَلُونَ؟ تُقَاتِلُونَ لِهَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا، فَهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ، فَمَا لَكَمَ لَا تُقَاتِلُونَ حَتَّى يُسَلِّمَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ وَدِينَهُمْ؟ قَالَ: وَالْقَرْيَةُ الظَّالِمُ أَهْلُهَا مَكَّةُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَيْقَنُوا بِمَوْعُودِ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ "يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه" يَقُولُ: فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمِنْهَاجِ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ. "وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوت" يَقُولُ: وَالَّذِينَ جَحَدُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ "يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ "، يَعْنِي فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَطَرِيقِهِ وَمِنْهَاجِهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ. يَقُولُ اللَّهُ مُقَوِّيًا عَزْمَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمُحَرِّضَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ دِينِهِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ: " فَقَاتَلُوا "- أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ –" أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ "يَعْنِي بِذَلِكَ: الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَيُطِيعُونَ أَمْرَهُ، فِي خِلَافِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَالتَّكْذِيبِ بِهِ، وَيَنْصُرُونَه" إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا " يَعْنِي بِكَيْدِهِ: مَا كَادَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ تَحْزِيبِهِ أَوْلِيَاءَهُ مِنَ الْكَفَّارِ بِاللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ وَأَوْلِيَائِهِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ. يَقُولُ: فَلَا تَهَابُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّمَا هُمْ حِزْبُهُ وَأَنْصَارُهُ، وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ أَهْلُ وَهَنٍ وَضَعْفٍ. وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ – بِالضَّعْفِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ رَجَاءَ ثَوَابٍ، وَلَا يَتْرُكُونَ الْقِتَالَ خَوْفَ عِقَابٍ، وَإِنَّمَا يُقَاتِلُونَ حَمِيَّةً أَوْ حَسَدًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.وَالْمُؤْمِنُونَ يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ رَجَاءَ الْعَظِيمِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ، وَيَتْرُكُ الْقِتَالَ- إِنْ تَرَكَهُ- عَلَى خَوْفٍ مِنْ وَعِيدِ اللَّهِ فِي تَرْكِهِ، فَهُوَ يُقَاتِلُ عَلَى بَصِيرَةٍ بِمَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ قُتِلَ، وَبِمَا لَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالظُّفْرِ إِنْ سَلِمَ. وَالْكَافِرُ يُقَاتِلُ عَلَى حَذَرٍ مِنَ الْقَتْلِ، وَإِيَاسٍ مِنْ مَعَادٍ، فَهُوَ ذُو ضَعْفٍ وَخَوْفٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ، وَقَدْ فُرِضَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَكَانُوا يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، فَلَمَّا فَرَضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ شَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَقَالُوا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ. فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ": أَلَمْ تَرَ بِقَلْبِكَ يَا مُحَمَّدُ فَتَعْلَم" إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ "مِنْ أَصْحَابِكَ حِينَ سَأَلُوكَ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَال" كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ "فَأَمْسِكُوهَا عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَحَرْبِهِم" وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ "يَقُولُ: وَأَدُّوا الصَّلَاةَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِحُدُودِهَا" وَآتُوا الزَّكَاةَ "يَقُولُ: وَأَعْطُوا الزَّكَاةَ أَهْلَهَا الَّذِينَ جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ تَطْهِيرًا لِأَبْدَانِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، كَرِهُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ كَفِّ الْأَيْدِي عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِم" فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ "يَقُولُ: فَلَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ الَّذِي كَانُوا سَأَلُوا أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِم" إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ "يَعْنِي: جَمَاعَةٌ مِنْهُم" يَخْشَوْنَ النَّاسَ "يَقُولُ: يَخَافُونَ النَّاسَ أَنْ يُقَاتِلُوهُم" كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً "أَوْ أَشَدَّ خَوْفًا، وَقَالُوا جَزَعًا مِنَ الْقِتَالِ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ؟ لِمَ فَرَضْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ؟ رُكُونًا مِنْهُمْ إِلَى الدُّنْيَا، وَإِيثَارًا لِلدَّعَةِ فِيهَا وَالْخَفْضِ عَلَى مَكْرُوهِ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَمَشَقَّةِ حَرْبِهِمْ وَقِتَالِهِم" لَوْلَا أَخَّرْتَنَا "يُخْبِرُ عَنْهُمْ، قَالُوا: هَلَّا أَخَّرْتَنَا" إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ " يَعْنِي: إِلَى أَنْ يَمُوتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ وَفِي مَنَازِلِهِمْ.. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ الْآثَارِ بِذَلِكَ، وَالرِّوَايَةِ عَمَّنْ قَالَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوُا النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً، فَقَالَ: إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا. فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُم" الْآيَة». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ}: عَنِ النَّاسِ "فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُم" نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَوْلُهُ: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} قَالَ: إِلَى أَنْ نَمُوتَ مَوْتًا، هُوَ الْأَجَلُ الْقَرِيبُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}: فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: "إِلَى أَجَلٍ قَرِيب" قَالَ: كَانَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ تَسَرَّعُوا إِلَى الْقِتَالِ، فَقَالُوا لِنَبِيِّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ذَرْنَا نَتَّخِذْ مَعَاوِلَ فَنُقَاتِلُ بِهَا الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ ! فَنَهَاهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ قَالَ: لَمْ أُؤْمَرْ بِذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَتِ الْهِجْرَةُ، وَأُمِرَ بِالْقِتَالِ كَرِهَ الْقَوْمُ ذَلِكَ، فَصَنَعُوا فِيهِ مَا تَسْمَعُونَ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} قَالَ: هُمْ قَوْمٌ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إِلَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ "فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَة" الْآيَةَ، إِلَى "إِلَى أَجَلٍ قَرِيب" وَهُوَ الْمَوْتُ، قَالَ اللَّهُ: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى}. وَقَالَ آخَرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ وَآيَاتٌ بَعْدَهَا فِي الْيَهُودِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} إِلَى قَوْلِهِ: "لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا" مَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُم" إِلَى قَوْلِهِ: "لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَال" نَهَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ أَنْ يَصْنَعُوا صَنِيعَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةِ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالُوا: " رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ": عَيْشُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَتَمَتُّعُكُمْ بِهَا قَلِيلٌ؛ لِأَنَّهَا فَانِيَةٌ وَمَا فِيهَا فَانٍ "وَالْآخِرَةُ خَيْر" يَعْنِي: وَنَعِيمُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ وَنَعِيمُهَا بَاقٍ دَائِمٌ. وَإِنَّمَا قِيلَ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَمَعْنَى الْكَلَامِ مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ نَعِيمَهَا- لِدَلَالَةِ ذِكْرِ "الْآخِرَة" بِالَّذِي ذُكِرَتْ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ "لِمَنِ اتَّقَى" يَعْنِي: لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، فَأَطَاعَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ " وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا "، يَعْنِي: وَلَا يَنْقُصُكُمُ اللَّهُ مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِكُمْ فَتِيلًا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْفَتِيلِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَهُنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: حَيْثُمَا تَكُونُوا يَنَلْكُمُ الْمَوْتُ فَتَمُوتُوا، "وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَة" يَقُولُ: لَا تَجْزَعُوا مِنَ الْمَوْتِ وَلَا تَهْرُبُوا مِنَ الْقِتَالِ، وَتَضْعُفُوا عَنْ لِقَاءِ عَدُوِّكُمْ حَذَرًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ بِإِزَائِكُمْ أَيْنَ كُنْتُمْ، وَوَاصِلٌ إِلَى أَنْفُسِكُمْ حَيْثُ كُنْتُمْ، وَلَوْ تَحَصَّنْتُمْ مِنْهُ بِالْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: " وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُعْنَى بِهِ: قُصُورٌ مُحَصَّنَةٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: "وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَة" يَقُولُ: فِي قُصُورٍ مُحَصَّنَةٍ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرٌ أَبُو الْفَضْلِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ امْرَأَةٌ وَكَانَ لَهَا أَجِيرٌ، فَوَلَدَتْ جَارِيَةً. فَقَالَتْ لِأَجِيرِهَا: اقْتَبِسَ لَنَا نَارًا، فَخَرَجَ فَوَجَدَ بِالْبَابِ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَا وَلَدَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: جَارِيَةً. قَالَ: أَمَا إِنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ لَا تَمُوتُ حَتَّى تَبْغِيَ بِمِئَةٍ، وَيَتَزَوَّجُهَا أَجِيرُهَا، وَيَكُونُ مَوْتُهَا بِالْعَنْكَبُوتِ. قَالَ: فَقَالَ الْأَجِيرُ فِي نَفْسِهِ: فَأَنَا أُرِيدُ هَذِهِ بَعْدَ أَنْ تَفْجُرَ بِمِئَةٍ، فَأَخَذَ شَفْرَةً فَدَخَلَ فَشَقَّ بَطْنَ الصَّبِيَّةِ. وَعُولِجَتْ فَبَرِئَتْ، فَشَبَّتْ، وَكَانَتْ تَبْغِي، فَأَتَتْ سَاحِلًا مِنْ سَوَاحِلِ الْبَحْرِ، فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ تَبْغِي، وَلَبِثَ الرَّجُلُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَدِمَ ذَلِكَ السَّاحِلَ وَمَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَقَالَ لِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ السَّاحِلِ: ابْغِينِي امْرَأَةً مِنْ أَجْمَلِ امْرَأَةٍ فِي الْقَرْيَةِ أَتَزَوَّجْهَا، فَقَالَتْ: هَهُنَا امْرَأَةٌ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهَا تَبْغِي. قَالَ: ائْتِينِي بِهَا، فَأَتَتْهَا فَقَالَتْ: قَدْ قَدِمَ رَجُلٌ لَهُ مَالَ كَثِيرٌ، وَقَدْ قَالَ لِي: كَذَا، فَقُلْتُ لَهُ: كَذَا، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ الْبِغَاءَ، وَلَكِنْ إِنْ أَرَادَ تَزَوَّجْتُهُ، قَالَ: فَتَزَوَّجَهَا، فَوَقَعَتْ مِنْهُ مَوْقِعًا، فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عِنْدَهَا إِذْ أَخْبَرَهَا بِأَمْرِهِ، فَقَالَتْ: أَنَا تِلْكَ الْجَارِيَةُ، وَأَرَتْهُ الشِّقَّ فِي بَطْنِهَا، وَقَدْ كُنْتُ أَبْغِي، فَمَا أَدْرِي بِمِئَةٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. قَالَ: فَإِنَّهُ قَالَ لِي: يَكُونُ مَوْتُهَا بِعَنْكَبُوتٍ. قَالَ: فَبَنَى لَهَا بُرْجًا بِالصَّحْرَاءِ وَشَيَّدَهُ. فَبَيْنَمَا هُمَا يَوْمًا فِي ذَلِكَ الْبُرْجِ، إِذَا عَنْكَبُوتٌ فِي السَّقْفِ فَقَالَتْ: هَذَا يَقْتُلُنِي؟ لَا يَقْتُلُهُ أَحَدٌ غَيْرِي فَحَرَّكَتْهُ فَسَقَطَ، فَأَتَتْهُ فَوَضَعَتْ إِبْهَامَ رِجْلِهَا عَلَيْهِ فَشَدَخَتْهُ، وَسَاحَ سُمُّهُ بَيْنَ ظُفْرِهَا وَاللَّحْمِ، فَاسْوَدَّتْ رِجْلُهَا فَمَاتَتْ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، قَالَ: قُصُورٌ مُشَيَّدَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: قُصُورٌ بِأَعْيَانِهَا فِي السَّمَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}: وَهِيَ قُصُورٌ بِيضٌ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}: يَقُولُ: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي قُصُورٍ فِي السَّمَاءِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِيمَعْنَى الْمُشَيَّدَةِ. فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْهُمْ: الْمُشَيَّدَةُ: الطَّوِيلَةُ. قَالَ: وَأَمَّا الْمَشِيدُ: بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ الْمُزَيَّنُ. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ نَحْوَ ذَلِكَ الْقَوْلِ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: الْمَشِيدُ بِالتَّخْفِيفِ: الْمَعْمُولِ بِالشِّيدِ، وَالشِّيدُ: الْجِصُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ: الْمَشِيدُ وَالْمُشَيَّدُ أَصْلُهُمَا وَاحِدٌ غَيْرَ أَنَّ مَا شُدِّدَ مِنْهُ فَإِنَّمَا يُشَدَّدُ لِنَفْسِهِ، وَالْفِعْلُ فِيهِ فِي جَمْعٍ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: هَذِهِ ثِيَابٌ مُصَبَّغَةٌ وَغَنَمٌ مُذَبَّحَةٌ فَشَدَّدَ ; لِأَنَّهَا جَمْعٌ يُفَرَّقُ فِيهَا الْفِعْلُ. وَكَذَلِكَ مِثْلُهُ قُصُورٌ مُشَيَّدَةٌ؛ لِأَنَّ الْقُصُورَ كَثِيرَةٌ تَرَدُّدِ فِيهَا التَّشْيِيدُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: بُرُوجٌ مُشَيَّدَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ، وَكَمَا يُقَالُ: كَسَّرْتُ الْعُودَ: إِذَا جَعَلْتُهُ قِطَعًا أَيْ: قِطْعَةً بَعْدَ قِطْعَةٍ. وَقَدْ يَجُوزُ فِي ذَلِكَ التَّخْفِيفِ، فَإِذَا أُفْرِدَ مِنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ فَكَانَ الْفِعْلُ يَتَرَدَّدُ فِيهِ وَيَكْثُرُ تَرَدُّدُهُ فِي جَمْعٍ مِنْهُ جَازَ التَّشْدِيدُ عِنْدَهُمْ وَالتَّخْفِيفُ، فَيُقَالُ مِنْهُ: هَذَا ثَوْبٌ مُخَرَّقٌ، وَجِلْدٌ مُقَطَّعٌ؛ لِتَرَدُّدِ الْفِعْلِ فِيهِ وَكَثْرَتِهِ بِالْقَطْعِ وَالْخَرْقِ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ لَا يَكْثُرُ فِيهِ وَلَا يَتَرَدَّدُ، وَلَمْ يُجِيزُوهُ إِلَّا بِالتَّخْفِيفِ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: رَأَيْتُ كَبْشًا مَذْبُوحًا، وَلَا يُجِيزُونَ فِيهِ: مُذَّبِحًا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ لَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ تَرَدُّدَ التَّخَرُّقِ فِي الثَّوْبِ. وَقَالُوا: فَلِهَذَا قِيلَ: قَصْرٌ مَشِيدٌ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ فَجُعِلَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: " كَبْشٌ مَذْبُوحٌ. وَقَالُوا: جَائِزٌ فِي الْقَصْرِ أَنْ يُقَالَ: قَصْرٌ مُشَيَّدٌ بِالتَّشْدِيدِ؛ لِتَرَدُّدِ الْبِنَاءِ فِيهِ وَالتَّشْيِيدِ، وَلَا يَجُوزَ ذَلِكَ فِي كَبْشٍ مَذْبُوحٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: "وَإِنَّ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه" وَإِنْ يَنَلْهُمْ رَخَاءٌ وَظَفَرٌ وَفَتْحٌ وَيُصِيبُوا غَنِيمَةً يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يَعْنِي مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَمِنْ تَقْدِيرِهِ. "وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَة" يَقُولُ: وَإِنْ تَنَلْهُمْ شِدَّةٌ مِنْ عَيْشٍ وَهَزِيمَةٌ مِنْ عَدُوٍّ وَجِرَاحٌ وَأَلَمٌ، يَقُولُوا لَكَ يَا مُحَمَّدُ: "هَذِهِ مِنْ عِنْدِك" بِخَطَئِكَ التَّدْبِيرَ. وَإِنَّمَا هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَنِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ لِنَبِيِّهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ}. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: " {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} قَالَ: هَذِهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: "وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا" قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْحَرْبِ. فَقَرَأَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: " وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ " يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَسَاءَ التَّدْبِيرَ وَأَسَاءَ النَّظَرَ، مَا أَحْسَنَ التَّدْبِيرَ وَلَا النَّظَرَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: "قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّه" قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ حَسَنَةٌ هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ سَيِّئَةٌ هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ: كُلُّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، دُونِي وَدُونَ غَيْرِي، مِنْ عِنْدِهِ الرَّخَاءُ وَالشِّدَّةُ، وَمِنْهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ، وَمِنْ عِنْدِهِ الْفَلُّ وَالْهَزِيمَةُ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ": النَّصْرُ وَالْهَزِيمَةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}: يَقُولُ: الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَمَّا الْحَسَنَةُ فَأَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكَ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَابْتَلَاكَ بِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ}: فَمَا شَأْنُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} يَقُولُ: لَا يَكَادُونَ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَا تُخْبِرُهُمْ بِهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ ضُرٍّ وَشِدَّةٍ وَرَخَاءٍ فَمِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَلَا يُصِيبُ أَحَدًا سَيِّئَةٌ إِلَّا بِتَقْدِيرِهِ، وَلَا يَنَالُ رَخَاءً وَنِعْمَةً إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ. وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ أَنَّ مَفَاتِحَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا بِيَدِهِ، لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا أَحَدٌ غَيْرِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} مَا يُصِيبُكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ رَخَاءٍ وَنِعْمَةٍ وَعَافِيَةٍ وَسَلَامَةٍ فَمِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْكَ، يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْكَ إِحْسَانًا مِنْهُ إِلَيْكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} يَعْنِي: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ شِدَّةٍ وَمَشَقَّةٍ وَأَذًى وَمَكْرُوهٍ "فَمِنْ نَفْسِك" يَعْنِي: بِذَنْبٍ اسْتَوْجَبَتْهَا بِهِ، اكْتَسَبَتْهُ نَفْسُكَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}: أَمَّا "مِنْ نَفْسِك" فَيَقُولُ: مِنْ ذَنْبِكَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}: عُقُوبَةٌ يَا ابْنَ آدَمَ بِذَنْبِكَ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ «نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى- اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: لَا يُصِيبُ رَجُلًا خَدْشُ عُودٍ، وَلَا عَثْرَةُ قَدَمٍ، وَلَا اخْتِلَاجُ عِرْقٍ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَر». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}: يَقُولُ: الْحَسَنَةُ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَتْحِ، وَالسَّيِّئَةُ: مَا أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، أَنْ شُجَّ فِي وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}: يَقُولُ: بِذَنْبِكَ ثُمَّ قَالَ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: النِّعَمُ وَالْمُصِيبَاتُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَوْلَهُ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قَالَ: هَذِهِ فِي الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، قَالَ: عُقُوبَةً بِذَنْبِكَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}: بِذَنْبِكَ، كَمَا قَالَ لِأَهْلِ أُحُدٍ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 165]، بِذُنُوبِكُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: " وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ "، قَالَ: بِذَنْبِكَ، وَأَنَا قَدَّرْتُهَا عَلَيْكَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}: وَأَنَا الَّذِي قَدَّرْتُهَا عَلَيْكَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِيهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِمِثْلِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ دُخُولِ "مِن" فِي قَوْلِهِ: "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة" " وَمِنْ سَيِّئَةٍ "؟ قِيلَ: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ. فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: أُدْخِلَتْ "مِنْ "؛ لِأَن" مِنْ "تَحْسُنُ مَعَ النَّفْيِ، مِثْلُ: مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ. قَالَ: وَدُخُولُ الْخَبَرِ بِالْفَاءِ؛ لِأَن" مَا "بِمَنْزِلَة" مِنْ ". وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: أُدْخِلَتْ "مِن" مَعَ "مَا" كَمَا تَدْخُلُ عَلَى "إِن" فِي الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا حَرَفَا جَزَاءٍ. وَكَذَلِكَ تَدْخُلُ مَعَ "مِن" إِذَا كَانَتْ جَزَاءً، فَتَقُولُ الْعَرَبُ: مَنْ يَزُرْكَ مِنْ أَحَدٍ فَتُكْرِمْهُ، كَمَا تَقُولُ: إِنْ يَزُرْكَ مِنْ أَحَدٍ فَتُكْرِمْهُ ". قَالَ: وَأَدْخَلُوهَا مَعَ "مَا" وَمِنْ "؛ لِيُعْلَمَ بِدُخُولِهَا مَعَهُمَا أَنَّهُمَا جَزَاءٌ. قَالُوا: وَإِذَا دَخَلَتْ مَعَهُمَا لَمْ تُحْذَفْ؛ لِأَنَّهَا إِذَا حُذِفَتْ صَارَ الْفِعْلُ رَافِعًا شَيْئَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ "مَا" فِي قَوْلِهِ: "مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة" رُفِعَ بِقَوْلِهِ: "أَصَابَك" فَلَوْ حُذِفَتْ "مِن" رَفَعَ قَوْلُهُ: "أَصَابَك" " السَّيِّئَةَ"؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: إِنْ تُصِبْكَ سَيِّئَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ حَذْفُ "مِن" لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ عَلَى "فَعَل" أَوْ "يَفْعَل" لَا يَرْفَعُ شَيْئَيْنِ. وَجَازَ ذَلِكَ مَعَ "مِنْ "؛ لِأَنَّهَا تَشْتَبِهُ بِالصِّفَاتِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ اسْمٍ. فَأَمَّا" إِنْ "فَإِن" مِنْ "تَدْخُلُ مَعَهَا وَتَخْرُجُ، وَلَا تَخْرُجُ مَع" أَيٍّ "؛ لِأَنَّهَا تُعْرَبُ فَيَبِينُ فِيهَا الْإِعْرَابُ، وَدَخَلَتْ مَعَ " مَا "؛ لِأَنَّ الْإِعْرَابَ لَا يَظْهَرُ فِيهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: "وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا "، إِنَّمَا جَعَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخُلُقِ، تُبَلِّغُهُمْ مَا أَرْسَلْنَاكَ بِهِ مِنْ رِسَالَةٍ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ غَيْرُ الْبَلَاغِ وَأَدَاءُ الرِّسَالَةِ إِلَى مَنْ أُرْسِلْتَ، فَإِنْ قَبِلُوا مَا أُرْسِلْتَ بِهِ فَلِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ رَدُّوا فَعَلَيْهَا." وَكَفَى بِاللَّهِ "عَلَيْكَ وَعَلَيْهِم" شَهِيدًا " يَقُولُ: حَسْبُكَ اللَّهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- شَاهِدًا عَلَيْكَ فِي بَلَاغِكَ مَا أَمَرْتُكَ بِبَلَاغِهِ مِنْ رِسَالَتِهِ وَوَحْيِهِ، وَعَلَى مَنْ أُرْسِلْتَ إِلَيْهِ فِي قَبُولِهِمْ مِنْكَ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُكَ وَأَمْرُهُمْ، وَهُوَ مُجَازِيكَ بِبَلَاغِكَ مَا وَعَدَكَ، وَمُجَازِيهِمْ مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، جَزَاءَ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا إِعْذَارٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ فِي نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ اللَّهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لَهُمْ: مَنْ يُطِعْ مِنْكُمْ- أَيُّهَا النَّاسُ- مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَنِي بِطَاعَتِهِ إِيَّاهُ، فَاسْمَعُوا قَوْلَهُ وَأَطِيعُوا أَمْرَهُ، فَإِنَّهُ مَهْمَا يَأْمُرْكُمْ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَمِنْ أَمْرِي يَأْمُرُكُمْ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ شَيْءٍ فَمِنْ نَهْيِي، فَلَا يَقُولُنَّ أَحَدُكُمْ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ مِثْلُنَا يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا. ثُمَّ قَالَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لِنَبِيِّهِ: وَمَنْ تَوَلَّى عَنْ طَاعَتِكَ يَا مُحَمَّدُ فَأَعْرَضَ عَنْكَ، فَإِنَّا لَمْ نُرْسِلْكَ عَلَيْهِمْ "حَفِيظًا" يَعْنِي: حَافِظًا لِمَا يَعْمَلُونَ مُحَاسِبًا، بَلْ إِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَكَفَى بِنَا حَافِظِينَ لِأَعْمَالِهِمْ وَلَهُمْ عَلَيْهَا مُحَاسِبِينَ. وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ- فِيمَا ذُكِرَ- قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْجِهَادِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَأَلَتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: "فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا" قَالَ: هَذَا أَوَّلَ مَا بَعَثَهُ، قَالَ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [سُورَةُ الشُّورَى: 48]. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ هَذَا بِأَمْرِهِ بِجِهَادِهِمْ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ يَعْنِي: الْفَرِيقُ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ خَشَوُا النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً يَقُولُونَ لِنَبِيِّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ: أَمْرُكَ طَاعَةٌ، وَلَكَ مِنَّا طَاعَةٌ فِيمَا تَأْمُرُنَا بِهِ وَتَنْهَانَا عَنْهُ "وَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِك" يَقُولُ: فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ يَا مُحَمَّدُ "بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُول" يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- غَيَّرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ لَيْلًا الَّذِي تَقُولُ لَهُمْ. وَكُلُّ عَمَلٍ عُمِلَ لَيْلًا فَقَدْ "بُيِّتَ "، وَمِنْ ذَلِك" بَيَّتَ " الْعَدُوَّ، وَهُوَ الْوُقُوعُ بِهِمْ لَيْلًا وَمِنْهُ قَوْلُ عُبَيْدَةَ بْنِ هَمَّامٍ: أَتَـوْنِي فَلَـمْ أَرْضَ مَـا بَيَّتُـوا، *** وَكَـانُوا أَتَـوْنِي بِشَـيْءٍ نُكُـرْ لِأَنْكِـحَ أَيِّمَهُـمْ مُنْـذِرًا، *** وَهَـلْ يُنْكِـحَ الْعَبْـدَ حُـرٌّ لِحُـرْ؟ ! يَعْنِي بِقَوْلِهِ: فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا لَيْلًا أَيْ: مَا أَبْرَمُوهُ لَيْلًا وَعَزَمُوا عَلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ الْعُكْلِيِّ: هَبَّـتْ لِتَعْـذُلَنِي مِـنَ اللَّيْـلِ اسْـمَعِ *** سَـفَهًا تُبَيِّتُـكِ الْمَلَامَـةُ فَـاهْجَعِي يَقُولُ اللَّهُ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ – "وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُون" يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُغَيِّرُونَ مِنْ قَوْلِكَ لَيْلًا فِي كُتُبِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تَكْتُبُهَا حَفَظَتُهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} قَالَ: يُغَيِّرُونَ مَا عَهِدَ نَبِيُّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ، قَالَ: غَيَّرَ أُولَئِكَ مَا قَالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: وَيَقُولُونَ طَاعَةً فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ، قَالَ: غَيَّرَ أُولَئِكَ مَا قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِذَا حَضَرُوا النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ قَالُوا: طَاعَةٌ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ غَيَّرَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – " وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ "، يَقُولُ: مَا يَقُولُونَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} قَالَ: يُغَيِّرُونَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ}: وَهُمْ نَاسٌ كَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لِيَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَالَفُوا إِلَى غَيْرِ مَا قَالُوا عِنْدَهُ، فَعَابَهُمُ اللَّهُ، فَقَالَ: "بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُول" يَقُولُ: يُغَيِّرُونَ مَا قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: "بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُول" هُمْ أَهْلُ النِّفَاقِ. وَأَمَّا رَفْعُ "طَاعَةٌ "؛ فَإِنَّهُ بِالْمَتْرُوكِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ مِنَ الْقَوْلِ وَهُوَ: أَمْرُكَ طَاعَةٌ، أَوْ مِنَّا طَاعَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " بَيَّتَ طَائِفَةٌ "، فَإِنَّ "التَّاءَ "مِن" بَيَّتَ "تُحَرِّكُهَا بِالْفَتْحِ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ وَسَائِرُ الْقَرَأَةِ؛ لِأَنَّهَا لَام" فَعَّلَ ". وَكَانَ بَعْضُ قَرَأَةِ الْعِرَاقِ يُسَكِّنُهَا، ثُمَّ يُدْغِمُهَا فِي " الطَّاءِ "؛ لِمُقَارَبَتِهَا فِي الْمُخْرَجِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ تَرْكُ الْإِدْغَامِ؛ لِأَنَّهَا أَعْنِي "التَّاء" " وَالطَّاءَ " مِنْ حَرْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَرْكُ الْإِدْغَامِ أَفْصَحَ اللُّغَتَيْنِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَاللُّغَةِ الْأُخْرَى جَائِزَةٌ- أَعْنِي الْإِدْغَامَ- فِي ذَلِكَ، مَحْكِيَّةٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لِمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – "فَأَعْرِض" يَا مُحَمَّدُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَكَ فِيمَا تَأْمُرُهُمْ: أَمْرُكَ طَاعَةٌ، فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ خَالَفُوا مَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ، وَغَيَّرُوهُ إِلَى مَا نَهَيْتَهُمْ عَنْهُ، وَخَلِّهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَارْضَ لَهُمْ بِي مُنْتَقِمًا مِنْهُمْ "وَتَوَكَّل" أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ "عَلَى اللَّه" يَقُولُ: وَفَوِّضْ أَنْتَ أَمْرَكَ إِلَى اللَّهِ، وَثِقْ بِهِ فِي أُمُورِكَ، وَوَلِّهَا إِيَّاهُ "وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا" يَقُولُ: وَكَفَاكَ بِاللَّهِ أَيْ: وَحَسْبُكَ بِاللَّهِ "وَكِيلًا" أَيْ: فِيمَا يَأْمُرُكَ، وَوَلِيًّا لَهَا، وَدَافِعًا عَنْكَ وَنَاصِرًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن" أَفَلَا يَتَدَبَّرُ الْمُبَيِّتُونَ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ كِتَابَ اللَّهِ فَيَعْلَمُوا حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي طَاعَتِكَ وَاتِّبَاعِ أَمْرِكَ، وَأَنَّ الَّذِي أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنَ التَّنْزِيلِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ؛ لِاتِّسَاقِ مَعَانِيهِ، وَائْتِلَافِ أَحْكَامِهِ، وَتَأْيِيدِ بَعْضِهِ بَعْضًا بِالتَّصْدِيقِ، وَشَهَادَةِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ بِالتَّحْقِيقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَاخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُ، وَتَنَاقَضَتْ مَعَانِيهِ، وَأَبَانَ بَعْضُهُ عَنْ فَسَادِ بَعْضٍ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} " أَيْ: قَوْلُ اللَّهِ لَا يَخْتَلِفُ، وَهُوَ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ بَاطِلٌ، وَإِنَّ قَوْلَ النَّاسِ يَخْتَلِفُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَا يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مَا جَهِلَ النَّاسُ مِنْ أَمْرٍ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَقْصِيرِ عُقُولِهِمْ وَجَهَالَتِهِمْ، وَقَرَأَ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}. قَالَ: فَحَقٌّ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقُولَ: " كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ "، وَيُؤْمِنُ بِالْمُتَشَابِهِ، وَلَا يَضْرِبُ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَإِذَا جَهِلَ أَمْرًا وَلَمْ يَعْرِفْ أَنْ يَقُولَ: الَّذِي قَالَ اللَّهُ حَقٌّ، وَيَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ – تَعَالَى- لَمْ يَقُلْ قَوْلًا وَيَنْقُضُهُ. يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمِنَ بِحَقِيقَةٍ مَا جَاءَ مِنَ اللَّهِ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَوْلَهُ: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن" قَالَ: يَتَدَبَّرُونَ: النَّظَرُ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}: وَإِذَا جَاءَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ الْمُبَيِّتَةَ غَيْرَ الَّذِي يَقُولُ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – "أَمْرٌ مِنَ الْأَمْن" فَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: "وَإِذَا جَاءَهُم" مِنْ ذِكْرِ الطَّائِفَةِ الْمُبَيِّتَةِ يَقُولُ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: وَإِذَا جَاءَهُمْ خَبَرٌ عَنْ سَرِيَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ غَازِيَّةٍ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَمِنُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ بِغَلَبَتِهِمْ إِيَّاهُمْ "أَوِ الْخَوْفِ "يَقُولُ: أَوْ تَخَوُّفُهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ بِإِصَابَةِ عَدُوِّهِمْ مِنْهُم" أَذَاعُوا بِهِ "يَقُولُ: أَفْشَوْهُ وَبَثُّوهُ فِي النَّاسِ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَبْلَ مَأْتَى سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –" وَالْهَاءُ "فِي قَوْلِهِ: " أَذَاعُوا بِهِ "مِنْ ذِكْر" الْأَمْرِ ". وَتَأْوِيلُهُ أَذَاعُوا بِالْأَمْرِ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ الَّذِي جَاءَهُمْ. يُقَالُ مِنْهُ: أَذَاعَ فُلَانٌ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَأَذَاعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْأُسُودِ: أَذَاعَ بِـهِ فِـي النَّـاسِ حَـتَّى كَأَنَّـهُ *** بِعَلْيَـاءَ نَـارٌ أُوقِـدَتْ بِثَقُـوبِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}: يَقُولُ: سَارَعُوا بِهِ وَأَفْشَوْهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ، يَقُولُ: إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ أَنَّهُمْ قَدْ أَمِنُوا مِنْ عَدُّوهُمْ، أَوْ أَنَّهُمْ خَائِفُونَ مِنْهُمْ، أَذَاعُوا بِالْحَدِيثِ حَتَّى يَبْلُغَ عَدُوَّهُمْ أَمْرُهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}: يَقُولُ: أَفْشَوْهُ وَسَعَوْا بِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} قَالَ هَذَا فِي الْأَخْبَارِ، إِذَا غَزَتْ سَرِيَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَخَبَّرَ النَّاسُ بَيْنَهُمْ فَقَالُوا: أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مَنْ عَدُوِّهُمْ كَذَا وَكَذَا، وَأَصَابَ الْعَدُوُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَذَا وَكَذَا، فَأَفْشَوْهُ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: "أَذَاعُوا بِه" قَالَ: أَعْلَنُوهُ وَأَفْشَوْهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ ": أَذَاعُوا بِهِ " قَالَ: نَشَرُوهُ. قَالَ: وَالَّذِينَ أَذَاعُوا بِهِ قَوْمٌ: إِمَّا مُنَافِقُونَ، وَإِمَّا آخَرُونَ ضَعُفُوا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَفْشَوْهُ وَسَعَوْا بِهِ، وَهُمْ أَهْلُ النِّفَاقِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: "وَلَوْ رَدُّوه" الْأَمْرَ الَّذِي نَالَهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ [وَالْمُسْلِمِينَ] إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِلَى أُولِي أَمْرِهِمْ يَعْنِي: وَإِلَى أُمَرَائِهِمْ وَسَكَتُوا فَلَمْ يُذِيعُوا مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْخَبَرِ، حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ ذَوُو أَمْرِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْخَبَرَ عَنْ ذَلِكَ، بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ أَوْ بُطُولُهُ، فَيُصَحِّحُوهُ إِنْ كَانَ صَحِيحًا، أَوْ يُبْطِلُوهُ إِنْ كَانَ بَاطِلًا "لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم" يَقُولُ: لَعَلِمَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْخَبَرِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ الَّذِينَ يَبْحَثُونَ عَنْهُ وَيَسْتَخْرِجُونَهُ "مِنْهُم" يَعْنِي: أُولِي الْأَمْرِ، "وَالْهَاء" " وَالْمِيمُ "فِي قَوْلِهِ: "مِنْهُم" مِنْ ذِكْرِ أُولِي الْأَمْرِ يَقُولُ: لَعَلِمَ ذَلِكَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ مَنْ يَسْتَنْبِطُهُ. وَكُلُّ مُسْتَخْرِجِ شَيْئًا كَانَ مُسْتَتِرًا عَنْ أَبْصَارِ الْعُيُونِ أَوْ عَنْ مَعَارِفِ الْقُلُوبِ فَهُوَ لَهُ: مُسْتَنْبِطٌ، يُقَالُ: اسْتَنْبَطْتُ الرَّكِيَّةَ إِذَا اسْتَخْرَجْتُ مَاءَهَا، وَنَبَطْتُهَا أَنْبِطُهَا، وَالنَّبْطُ الْمَاءُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنَ الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَـرِيبٌ ثَـرَاهُ مـا يَنَـالُ عَـدُوُّهُ *** لَـهُ نَبْطًـا آبِـي الهَـوَانِ قَطُـوبُ يَعْنِي بالنَّبْطِ: الْمَاءُ الْمُسْتَنْبَطُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ}: يَقُولُ: وَلَوْ سَكَتُوا وَرَدُّوا الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِلَى أُولِي أَمْرِهِمْ حَتَّى يَتَكَلَّمَ هُوَ بِهِ "لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَه" يَعْنِي: عَنِ الْأَخْبَارِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُنَقِّرُونَ عَنِ الْأَخْبَارِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ}: يَقُولُ: إِلَى عُلَمَائِهِمْ {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَفْحَصُونَ عَنْهُ وَيُهِمُّهُمْ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُخْبِرُهُمْ: "وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُم" الْفِقْهُ فِي الدِّينِ وَالْعَقْلِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: "وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ": الْعِلْم" الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ": يَتَتَبَّعُونَهُ وَيَتَحَسَّسُونَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: أَخْبَرَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ "لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم" قَالَ: الَّذِينَ يَسْأَلُونَ عَنْهُ وَيَتَحَسَّسُونَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: "يَسْتَنْبِطُونَه" قَالَ: قَوْلُهُمْ: مَا كَانَ؟ مَاذَا سَمِعْتُمْ؟ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: "الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَه" قَالَ: يَتَحَسَّسُونَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم" يَقُولُ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَتَحَسَّسُونَهُ مِنْهُمْ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: "يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم" قَالَ: يَتَتَبَّعُونَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِه" حَتَّى بَلَغَ "وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُم" قَالَ: الْوُلَاةُ الَّذِينَ يَلُونَ فِي الْحَرْبِ عَلَيْهِمْ، الَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فَيَنْظُرُونَ لِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْخَبَرِ: أَصِدْقٌ أَمْ كَذِبٌ؟ أَبَاطِلٌ فَيُبْطِلُونَهُ، أَوْ حَقٌّ فَيُحِقُّونَهُ؟ قَالَ: وَهَذَا فِي الْحَرْبِ، وَقَرَأَ: "أَذَاعُوا بِه" وَلَوْ فَعَلُوا غَيْرَ هَذَا "وَرَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُم" الْآيَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- وَلَوْلَا إِنْعَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ- أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- بِفَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَأَنْقَذَكُمْ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ: "طَاعَة" فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِهِ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي يَقُولُ لَكُنْتُمْ مِثْلَهُمْ، فَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا كَمَا اتَّبَعَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ. وَخَاطَبَ بِقَوْلِهِ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ}: الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 71]. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي "الْقَلِيل" الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ هُمْ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ مِنَ الصِّفَاتِ اسْتَثْنَاهُمْ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الْمُسْتَنْبِطُونَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ، اسْتَثْنَاهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: " لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ "، وَنَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا بِالِاسْتِنْبَاطِ مَا يَعْلَمُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُسْتَنْبَطَيْنِ مِنَ الْخَبَرِ الْوَارِدِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} " إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ " {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} ". حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}: يَقُولُ: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ كُلُّكُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إِلَّا قَلِيلًا "، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: " لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ " إِلَّا قَلِيلًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ قِرَاءَةً، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} قَالَ يَقُولُ: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ كُلُّكُمْ. وَأَمَّا "إِلَّا قَلِيلًا" فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ، يَعْنِي نَحْوَ قَوْلِ قَتَادَةَ وَقَالَ: لَعَلِمُوهُ إِلَّا قَلِيلًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمُ الطَّائِفَةُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "طَاعَة" فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِهِ بَيَّتُوا غَيْرَ الَّذِي قَالُوا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}: فَهُوَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لِخَبَرِ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِه" يَعْنِي بـ "الْقَلِيل" الْمُؤْمِنِينَ، [كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا} [سُورَةُ الْكَهْفِ: 221] يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَدْلًا قَيِّمًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَذِهِ الْآيَةُ مُقَدَّمَةٌ وَمُؤَخَّرَةٌ، إِنَّمَا هِيَ: أَذَاعُوا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَمْ يَنْجُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: " لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ ". وَقَالُوا: الَّذِينَ اسْتُثْنَوْا هُمْ قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا هَمُّوا بِمَا كَانَ الْآخَرُونَ هَمُّوا بِهِ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ. فَعَرَّفَ اللَّهُ الَّذِينَ أَنْقَذَهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَوْقِعَ نِعْمَتِهِ مِنْهُمْ، وَاسْتَثْنَى الْآخَرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْآخَرِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ يَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانُوا حَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِأُمُورٍ مِنْ أُمُورِ الشَّيْطَانِ إِلَّا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ جَمِيعًا. قَالُوا: وَقَوْلُهُ: "إِلَّا قَلِيلًا" خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَمِيعِ وَالْإِحَاطَةِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَتُهُ لَمْ يَنْجُ أَحَدٌ مِنَ الضَّلَالَةِ، فَجُعِلَ قَوْلَهُ: "إِلَّا قَلِيلًا" دَلِيلًا عَلَى الْإِحَاطَةِ، وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الطِّرْمَاحِ بْنِ حَكِيمٍ فِي مَدْحِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ: أَشَـمُّ كَثِـيرُ يُـدِيِّ النَّـوَالِ، *** قَلِيـلُ المَثَـالِبِ وَالقَادِحَـةْ قَالُوا: فَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ وَصْفُ الْمَمْدُوحِ بِأَنَّ فِيهِ الْمَثَالِبَ وَالْمَعَايِبَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا مَثَالِبَ فِيهِ وَلَا مَعَايِبَ؛ لِأَنَّ مَنْ وَصَفَ رَجُلًا بِأَنَّ فِيهِ مَعَايِبَ- وَإِنْ وَصَفَ الَّذِي فِيهِ مِنَ الْمَعَايِبِ بِالْقِلَّةِ- فَإِنَّمَا ذَمَّهُ وَلَمْ يَمْدَحْهُ. وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ نَفْيِ جَمِيعِ الْمَعَايِبِ عَنْهُ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا" إِنَّمَا مَعْنَاهُ: لَاتَّبَعْتُمْ جَمِيعُكُمُ الشَّيْطَانَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِاسْتِثْنَاءِ "الْقَلِيل" مِنَ "الْإِذَاعَة" وَقَالَ: مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ: " لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ "؛ لِأَنَّ مَنْ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ تُبَّاعِ الشَّيْطَانِ. وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَحْمِلَ مَعَانِيَ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ الْأَغْلَبِ الْمَفْهُومِ بِالظَّاهِرِ مِنَ الْخِطَابِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَنَا إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ سَبِيلٌ، فَنُوَجِّهُهُ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَجَّهَهُ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ جَمِيعًا، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: "إِلَّا قَلِيلًا" دَلِيلٌ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِالْجَمِيعِ، هَذَا مَعَ خُرُوجِهِ مِنْ تَأْوِيلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. وَكَذَلِكَ لَا وَجْهَ لِتَوْجِيهِ ذَلِكَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: " لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ "؛ لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ إِذَا رُدَّ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُولُو الْأَمْرِ مِنْهُمْ بَعْدَ وُضُوحِهِ لَهُمْ اسْتَوَى فِي عِلْمِ ذَلِكَ كُلُّ مُسْتَنْبِطٍ حَقِيقَتَهُ، فَلَا وَجْهَ لِاسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمُسْتَنْبِطِينَ مِنْهُمْ وَخُصُوصِ بَعْضِهِمْ بِعِلْمِهِ، مَعَ اسْتِوَاءِ جَمِيعِهِمْ فِي عِلْمِهِ. وَإِذْ كَانَ لَا قَوْلَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا قُلْنَا، وَدَخَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ مَا بَيَّنَا مِنَ الْخَلَلِ، فَبَيِّنٌ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ هُوَ الرَّابِعُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي قَضَيْنَا لَهُ بِالصَّوَابِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ " الْإِذَاعَةِ ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: "فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ": فَجَاهِدْ يَا مُحَمَّدُ أَعْدَاءَ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ." فِي سَبِيلِ اللَّهِ " يَعْنِي: فِي دِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ لَكَ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَاتِلْهُمْ فِيهِ بِنَفْسِكَ. فَأُمًّا قَوْلُهُ: "لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَك" فَإِنَّهُ يَعْنِي: لَا يُكَلِّفُكَ اللَّهُ فِيمَا فَرَضَ عَلَيْكَ مِنْ جِهَادِ عَدُوِّهِ وَعَدُوِّكَ إِلَّا مَا حَمَّلَكَ مِنْ ذَلِكَ دُونَ مَا حَمَّلَ غَيْرَكَ مِنْهُ أَيْ: إِنَّكَ إِنَّمَا تُتَّبَعُ بِمَا اكْتَسَبْتَهُ دُونَ مَا اكْتَسَبَهُ غَيْرُكَ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ مَا كُلِّفْتَهُ دُونَ مَا كُلِّفَهُ غَيْرُكَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: "وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِين" يَعْنِي: وَحُضَّهُمْ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَمَرْتُكَ بِقِتَالِهِمْ مَعَكَ، {" عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا "}: يَقُولُ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُفَّ قِتَالَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَجَحَدَ وَحْدَانِيَّتَهُ وَأَنْكَرَ رِسَالَتَكَ عَنْكَ وَعَنْهُمْ، وَنِكَايَتَهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ "عَسَى" مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. " وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا " يَقُولُ: وَاللَّهُ أَشَدُّ نِكَايَةً فِي عَدُوِّهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ مِنْهُمْ فِيكَ يَا مُحَمَّدُ وَفِي أَصْحَابِكَ، فَلَا تَنْكُلَنَّ عَنْ قِتَالِهِمْ، فَإِنِّي رَاصِدُهُمُ بِالْبَأْسِ وَالنِّكَايَةِ وَالتَّنْكِيلِ وَالْعُقُوبَةِ؛ لِأُوهِنَ كَيْدَهُمْ، وَأُضَعِّفَ بَأْسَهُمْ، وَأُعْلِيَ الْحَقَّ عَلَيْهِمْ. وَالتَّنْكِيلُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: نَكَّلْتُ بِفُلَانٍ فَأَنَا أُنَكِّلُ بِهِ تَنْكِيلًا: إِذَا أَوْجَعْتُهُ عُقُوبَةً، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا: أَيْ عُقُوبَةً.
|